30 يناير 2021 - 13:11
في هذه الرّواية، لم يكن الرّاوي يتصوّر أنّه حين ذهب في زيارةٍ عابرةٍ إلى باريس يوم 12 مارس ذاك من سنة 2020، سوف يقضي أكثر من ثلاثة أشهر من النّفي القسري في مدينةٍ تتنفّس ببطءٍ شديدٍ إلى حدّ الاختناق ؛ مدينة يكتسحها واقعٌ فادحٌ في قسوته وفراغه المُحْبِط ؛ مدينة لا يستقيم فيها إلاّ الابتعاد عن الفيروس اللعين والانزواء بين جُدران مشحونةٍ بالوحدة والضّجر وحتّى بالمؤانسة أحياناً، أمام شاشة الكومبيوتر وعوالمه الافتراضية التي قد تُشفي الغليل وقد لا تُشفيه (في الغالب)، فيُصبح التّلفاز هو الطّوق الأخير للنّجاة من القبضة المُؤلمة لوقتٍ لا يرحم.
ولحُسن حظّ الرّاوي – الحظّ الذي سوف يستفيد منه القارئ – أنّه كان يتوفّر على طوقٍ آخَر للنّجاة هو : الكتابة ؛ إذ من خلالها استطاع أن يُوثّق لعلاقةٍ عجيبةٍ توطّدت بينه وبين صديقته "دولوريس" ؛ تلك الشّجرة الشّامخة التي كانت منتصبة أمام نافذته الباريسية، والتي أصبحت مع الأيام تتسلّل إلى وجدانه لتُؤْنِسه وتُواسيه وتُنْسيه بعض همومه بمحاوراتٍ للنّفس شبيهةٍ ما تكون بالمونولوج، ولكن دون أن تُحرِّر تماماً أفكاره المحاصَرَة بالشّكوك والمطعونة في صميم يقينها المُتهشِّم بما يكاد يُشبه اليأس.
ومُذ أحسّ الرّاوي بجسامة الموقف الذي واجَهَتْه به الجائحة، لم يخطر بباله أنّ شجرته "دولوريس" التي وضعها القدَر – رمزياً – في طريقه، ستُعيد ترتيب أوراقه الوقتية وتَشُدّ أزره إلى أن تستبّ له مقاليد الحكاية، وتنطوي الحيلة على أيّامه العصِيبة العصيّة على التّرويض، وقد تعطّلت وظائفُها المعتادة إلى حينٍ، فيما يُشبه العطب الذي لا يَقْدر عليه إصلاح.
وهكذا وجد نفسه (أي الرّاوي) واقفاً على عتبة محنةٍ لم يتوقّعها، فشهر لها قلمه وانطلق في الكتابة بجسارة المُصارِع الذي لا يستسلم، مُتّخذاً من همومه وآماله المؤجَّلة حِبْراً يُحْيي الماضي ويغوص به في الحاضر بل ويقتحم به حتّى المستقبل، فتنكسر بذلك البنية النّمطية للسّرد وتتداخل الفضاءات والإيحاءات التي يتلقّفها اليومي بضروراته الجريحة وضراوته المُحَصَّنة بالمَخاوف المُخَلخِلَة لكلّ يقينٍ.
كان على الرّاوي إذاً أن يُرتّب أيّامه الباريسية بمعية ذلك الصّوت الأثيري الذي صارت تستدعيه من خلاله صديقته "دولوريس"، للمضي سويّاً في جولات جوّانية استغرقت مائة يومٍ بالتّمام والكمال؛ ولكنّها تحوّلت كلّها إلى محطّات ثرية بالحوارات والاقتباسات والحكايات والألاعيب اللغوية والشّعرية والسّردية الجميلة، التي لا يُتقنها إلاّ راوية من طينة الأستاذ عبد السلام بوطيّب، الذي بجَلَدِه الإيجابي وبإصراره المتفائل تمكّن من مُداورة كيد الوقت لكي يُعيد للكتابة نُبُوّتها الأولى المُبَشّرة بإمكانية بناء "عالمٍ – وطنٍ – يتّسع للجميع" (على حدّ تعبيره).
وفي محاولاته المختلفة هذه، للكشف عن المعنى الإنساني للحياة وللعالم، وعن الطريقة المُثلى لوضع الشأن العام العربي والمحلّي على قدميه، عمل الرّاوي على استقراء ما يمكن أن يُسمّى بـ"الفقه السّياسي" (إن جاز التعبير)، لكن بنوعٍ من الحياد البريء الذي لطالما دفعه إلى الاستشهاد – ولو على حساب إبطاء القراءة – ببعض المقالات والاستشهادات الضّرورية لإبراز ما تخوض فيه الرواية من بلاغة السِّلْم والمُسالَمة، ومن قراءة بنّاءة للمجتمعات "الرّثة" ولأحوالها المتردّية ؛ هذا، دون أن تنجو من سهام نقده بعض النظريات والسّياسات والإيديولوجيات التي عفّى عليها الزّمن بعدما انكشف فشلها الذّريع.
ولهذه الأسباب، ولغيرها التي لا يتّسع المجال للإحاطة بها كلّها، تعدّدت مستويات اللغة السّردية في "الشّجرة الهلامية" وجاءت متفاوتة ومُسترسَلة بتلقائية، كنجوى تتجاور فيها الشّعرية والحوارية والحكي الرّشيق، وحتّى الامتعاض اللطيف الذي نجده حاضراً فيها أحياناً، ولا سيما عندما يكون المقام عاصفاً ويحتاج إلى صرامة حكيمة تُجْبِر الرّاوي على التخلّي عن حياده للتّصدّي للأفكار السّوداوية أو الانهزامية، المأخوذة بتَقبُّل العالم حتّى وهو يسكب ظلامه من أباريق الليل البهيم ويُجرّعنا مرارته لنصبح جميعاً شركاء في بؤسه القاتل.
لذا، فاللغة، وباعتبارها صلة الوصل الأساس بين الكاتب والمتلقّي، تحوّلت عند الأستاذ بوطيب إلى قَدَرٍ جميلٍ، يُلقي بظلاله على القارئ ويسحبه من تلابيبه نحو العالم الإيجابي الذي أسّست له الرواية واستثمرت لأجله الواقع بطريقة شيّقة حوّلت قسوته إلى رحمة، فتحرّرت بذكاء من شكلية النّص الرّوائي التقليدي وسكونه، مُوظِّفةً تقنيات حداثية في السّرد والحوار والتّحليل، تماشياً مع الخيبات التي طبعت الزّمن الروائي وفضاءاته؛ وهو ما يُعتبر ابتكاراً لجماليةٍ جديدةٍ مغايرةٍ للمعايير السّردية المتعارف عليها، وكأنّ الرّاوي كان يسعى إلى خلق حياة أخرى داخل الحياة أو ربّما خارجها، ولهذا عاش في غير ما مرّة فترات ارتدادية عادت به إلى أزمنةٍ مُستعادةٍ من الماضي الدّفين في ذاكرته وإلى ما تحمله من معاناة وآلام – نابعة بالخصوص من تجربته السِّجْنِيّة المريرة – عساها أن ترأف به وتُنصف ما تبقّى له من عمر.
كلّ هذا الثّراء جاء، ربّما، لأنّ الأستاذ بوطيب عرف كيف يمزج في روايته الجميلة والضّخمة (460 صفحة)، أفاويه الكتابة وتوابلها الصّالحة لتغذية الحياة بالأمل لا لتسميمها بالمآسي كما تريد أن تفعله بنا الجائحة المشؤومة؛ وكيف لا، ومهنة الكاتب أصلاً هي: "زراعة الأمل".
والرّواية في مجملها هي، كما أسلفنا، عبارة عن محطّات يربط حَبْكتها خيطٌ رفيعٌ هو كيف يتخلّص الرّاوي من الورطة الباريسية التي وقع فيها جرّاء الفيروس المَقيت، الذي ربض على مصائر الناس في سائر أنحاء المعمور، وهذا ما جعل الأصوات المتفاعلة فيها (أي الرّواية) تتداخل مع واقعٍ مفروضٍ بقسوةٍ على الذّات السّاردة وتجرّها إلى "محاكمته" عن طريق الأدب، إنصافا لهذا الأخير على الأقل.
ومن كلّ هذا يمكن أن نَخْلُص إلى مُحصِّلة مفادها أنّ الرّواية تعالج أكثر من موضوعة، وتحمل للقارئ أكثر من رسالة يمتزج فيها الإيديولوجي بالسياسي بالاجتماعي بالثقافي بالحقوقي، ولو أنّ عنوانها الأكبر يبقى هو ذلك الهمّ الوجودي الحالم بـ "عالم يتّسع للجميع"؛ عالم يسمو فيه الإيثار على كلّ النّوازع البشرية الأخرى، لكي تكفّ المصائر الإنسانية عن التناحر وتبقى في منأى عن كلّ ما يجعلها تذهب إلى حتفها بأنفها.
كمال الخمليشي
أفادت المديرية العامة للأرصاد الجوية بأنه يرتقب تسجيل تساقطات ثلجية وأمطار قوية محليا وأحيانا رعدية، يومي الأحد والاثنين المقبلين، بعدد من مناطق المملكة. وأوضحت المديرية، في... التفاصيل
شهدت الطريق الوطنية رقم 2 الرابطة بين شفشاون والحسيمة، أول أمس الخميس، حادثاً خطيراً بعد انقلاب شاحنة وخروجها عن مسارها على مستوى جماعة أونان بدائرة... التفاصيل
أيّدت الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف بالحسيمة، الحكم الابتدائي الصادر في حق متهمة توبعت في ملف يتعلق بالتشهير والتهديد بإفشاء أمور شائنة، مع تعديل العقوبة بالتخفيض... التفاصيل
وجّه الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية بمجلس النواب، بتاريخ 24 نونبر 2025، سؤالاً كتابياً إلى كاتبة الدولة لدى وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه... التفاصيل
شهدت مدينة ميبل شمال هولندا، مساء الجمعة، حادثة إطلاق نار مروعة أودت بحياة شاب يبلغ من العمر 26 عاماً ينحدر من مدينة رالته، حيث فشلت... التفاصيل
عدد التعليقات (0 )
أضف تعليقك