rif category
rif category

"عدّنْبي نَ السوق".. ذلك المقاوم المجهول

كتاب الرأي

15 أكتوبر 2014 - 21:02

"عدّنْبي نَ السوق".. ذلك المقاوم المجهول

عرف بمقولته المشهورة التي صارت مضرب الأمثال: “تغير المقبض، أما حدّ المنجل فبقي على حاله”. صار هذا المثل يضرب حينما يراد التدليل على أن أي شيئ لم يتغير، وخاصة أثناء تقييم الأداء السياسي لحزب ما أو لبلدية أو لحكومة قائمة. ومَن مِن المغاربة لا يصول ولا يجول في ساحة السياسة؟ صاحب هذه المقولة التي عبرت الزمن وتحولت إلى مأثورة، معروف فقط في بعض الجهات من الريف، وخاصة في أسواق آيت ورياغل وبعض أسواق كزناية بإقليم تازة والجهة الشرقية من الريف، وهي الأسواق التي كان يتردد عليها باستمرار.

لماذا أتذكر صاحب هذه المقولة في هذه الأيام بالضبط، ومن يكون هذا الشخص؟

لأننا في مثل هذا الوقت (بداية أكتوبر) من كل سنة، نحتفل في المغرب بأبطال المقاومة وجيش التحرير، الأحياء منهم والأموات. ففي بداية كل أكتوبر نطرز الخطب وننمقها تمجيدا ل “أبطال” نالوا ما شاؤوا من التبجيل والتعظيم، ونالوا حظهم الواسع كذلك في ما قُدّر لهم من المناصب والإكراميات، كما سميت شوارع كبيرة بأسماء كثيرين منهم، ودُبجت في حقهم كتب ومصنفات. أما أمثال هذا الشخص، فلا نسمع عنهم خبرا ولا نعرف لهم اسما. لعل هذا ما جعل تفكيري يذهب إليه في هذه الأيام بالذات، احتراما لذكراه وذاكرته، واحتراما  لذاكرة كل المقاومين المنسيين.

اسم هذا الشخص الذي يطلق عليه جيل الفيسبوك حاليا “حكيم الريف”، هو عبد النبي، أو “عدّنبي” بحسب اللسان الريفي، ولقبه المشهور هو “عدّنبي ن السوق” (عبد النبي السوق)، لأنه كان يسيح على أسواق الناحية ساعيا وراء قوت يومه. ليس من الريفيين من لا يعرفه أو لم يسمع عنه وعن أقواله التي ارتقت إلى مرتبة الحِكَم، ولكن القليلين منهم فقط من يعرف تاريخه الحقيقي.

في مارس 1984، التقيت بوالدي لأول مرة في هولندا، كنت طالبا في الجامعة بينما كان الوالد يتنقل بين المنافي. أتذكر أنه سألني عن “عدنبي” وهل ما يزال على قيد الحياة. استوضحت منه الأمر بعفوية وسذاجة: “هل تقصد “عدنبي ن السوق”؟ أجابني بنبرة فيها نوع من الاستنكار والتعجب: أي سوق؟ أنا أسألك عن “عدنبي” المقاوم. سُقط في يدي. أيكون ذلك المخبول مقاوما سابقا؟

قص علي الوالد نتفا من حياة عبد النبي في أيام عز التحضير لعمليات جيش التحرير ضد الفرنسيين في كزناية التي كانت آنئذ خاضعة للنفوذ الفرنسي، بينما الاتصالات والتحضيرات كانت تتم على الواجهة المقابلة من “الحدود” في منطقة النفوذ الإسباني، ومن بينها بلدة أربعاء تاوريرت، وهي عبارة عن سوق أسبوعي كان بمثابة ملتقى للقبائل الريفية بقسماتها وتفرعاتها: آيت ورياغل، قلعية وكزناية. كان عبد النبي واحدا من جنود الخفاء، يحمل الأسلحة ويهربها نحو كزناية، وعند اندلاع المعارك ابتداء من 2 أكتوبر 1954، أبلى فيها البلاء الحسن. فبالإضافة إلى شجاعته في القتال، تخصص في إخلاء المصابين من الجبهة إلى المناطق الخلفية الآمنة.

هذا هو “عدنبي” الذي كنت أجهله، ولست أنا الوحيد من كان يجهله. تجهله أيضا المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير، تجهله الجامعات والمدارس، يجهله المختصون وجمعيات المجتمع المدني. “عدنبي” هو مثال لعشرات، وربما المئات من الجنود المجهولين على امتداد مساحة الوطن. لا أحد يعرف شيئا عن تاريخهم، ولا هم طالبوا بحقهم في الاعتراف بهم. تواروا إلى الخلف بعد الاستقلال تاركين الساحة للمدّعين والمقاومين المزيفين. قراءة سريعة لبعض من كتب مذكراته عن المقاومة وجيش التحرير، تكفي لتكتشف ملامح بعض المدعين، الغارقين في التباهي الشخصي والأنانية الطاغية، يقابلها تبخيس بما قام به غيرهم والتشكيك في صدقيتهم ومصداقيتهم. أما “عدنبي” فلم يكن صاحب قلم ليسطر أمجاده في صحائف وكتب وموسوعات. كان جنديا مجهولا، ومات مجدوبا مخبولا.

في ذلك اللقاء الأول الذي جمعني بالوالد، أذكر أنني قلت له: “عدنبي ن السوق” أحمق. “هو العاقل الوحيد فيكم الآن في الريف”، أجابني الوالد وهو يهز رأسه مستغربا قبل أن يواصل: “لقد اختار أن “يفقد” عقله حتى لا يفقد حياته. لو لم يفعل ذلك لانتحر أو نُحر”.

“عدنبي” اختار الهبل طواعية، ليس فقط ليبقى على قيد الحياة، بل ليقول ما يريد قوله بكل حرية. ألم يرفع الشرع القلم عن المجنون؟ فمقولته التي بدأت بها هذا المقال، كانت مقارنة صارخة بين مرحلتين: مرحلة الحماية ومرحلة الاستقلال. حينما نظم المغرب المستقل أول استفتاء له على أول دستور، تحمس له آنذاك حزب الاستقلال، وراح يوزع المناشير في الأسواق والدواوير، ويجيش أتباعه وأنصاره للتصويت بنعم. “نعم للدستور” أضحى شعارا وطنيا من خانه خان الوطن! أما “عدنبي” فكان يقوم هو أيضا بحملته المناهضة على طريقته. كان يحذر: إياكم والخدعة! وحينما صوت المغاربة ب “الإجماع” بنعم على الدستور، راح “عدنبي” يصيح في الأسواق: هل جلستم على القالب؟ سايسوه إذن.

كان يستخدم كلاما فيه إيحاءات جنسية واضحة. وبما أنه كان يعيش في مجتمع محافظ، فقد كان الناس يعطونه النقود بسرعة كي يتخلصوا منه ومن كلامه الخادش للحياء. في سوق الاثنين الأسبوعي نادى عليه القائد ليقوم له بخدمة، وتتلخص الخدمة في أن يمشي في السوق وينادي بصوته الجهوري في الناس أن يفدوا على الإدارة لأمر هام. كان النداء (البراح) في الأسواق طريقة يلتجئ إليها المسؤولون لتبليغ الناس أمورا إدارية مهمة. وبدأ “عدنبي” يصيح في الجموع: “أيتها الكلاب الصغيرة، الكلاب الكبيرة تطلبكم في أمر هام”! ذات مرة زادت الحكومة في الأسعار وراح “عدنبي” يطلب “الصدقة” كعادته في الأسواق. أعطاه شخص 20 فرنكا بعملة ذلك الزمن. بدأ ينظر في المبلغ بعين فاحصة والناس الملتفون حول براد شاي يترقبون وأيديهم على قلوبهم خوفا من كلامه الفاضح. أعاد “عدنبي” المبلغ لصاحبه قائلا له: “الحكومة زادت في الأسعار، حتى “السعاية” زادت”!

كم من “عدنبي” ضيعه قومه؟ كثيرون بلا شك. لا نطلب من المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير أن تحفر في الصخر لتكشف هوية الجنود المجهولين في تاريخنا المعاصر، ولكن فقط أن تدرك أن لائحة الآلاف من الذين حصلوا على بطاقة “مقاوم” بعد الاستقلال، تحتاج لغربلة حقيقية. لأن المقاومين الحقيقيين لم يفعلوا ذلك من أجل الحصول على بطاقة باهتة، لا ذكر لها في صحائف الذاكرة الجماعية.

محمد أمزيان

عدد التعليقات (0 )

المجموع: | عرض:

أضف تعليقك

line adsense

موجة البرد القارس تعمّق معاناة ساكنة العالم القروي بإقليم الحسيمة

 تعرف مرتفعات إقليم الحسيمة، خلال الآونة الأخيرة، تساقطات ثلجية كثيفة همّت عددا من الجماعات القروية، من بينها شقران، بني عمارت، تارجيست، زاوية سيدي عبد القادر... التفاصيل

تارجيست.. تكرم رئيس كتابة النيابة العامة السابق بمناسبة انتقاله إلى استئنافية الحسيمة

 نظم المكتب المحلي للنقابة الديمقراطية للعدل بتارجيست، بشراكة مع ودادية موظفي العدل، مساء يوم الثلاثاء 23 دجنبر 2025، حفلاً تكريمياً بهيجاً برحاب المحكمة الابتدائية بتارجيست،... التفاصيل

التكتل المهني والتجاري بالحسيمة يدق ناقوس الخطر بسبب الركود الاقتصادي

 أعرب التكتل المهني والتجاري والخدماتي بالحسيمة عن قلقه البالغ واستيائه العميق إزاء ما تعيشه المدينة من ركود اقتصادي واجتماعي مقلق، في ظل هشاشة البنية الإنتاجية... التفاصيل

مصرع شاب بعد أن جرفته سيول واد بإقليم الدريوش (صور)

 لقي شاب يبلغ من العمر 23 سنة مصرعه غرقاً، مساء اليوم الأربعاء 24 دجنبر، بعد أن جرفته سيول شعبة “واد الحمام” بجماعة امطالسة باقليم الدريوش. وتعود... التفاصيل

أمطار وثلوج تنعش منطقة الريف وتبعث آمال موسم فلاحي واعد بعد سنوات من الجفاف

 شهدت منطقة الريف، خلال الأسبوع الأخير، تساقطات مطرية مهمة همّت مختلف الجماعات والأقاليم، مخلفة حالة من الارتياح في أوساط الفلاحين، الذين يتوقعون انطلاقة موسم فلاحي... التفاصيل

line adsense