قيم هذا المقال
تجديد هياكل الفرع المحلي للجامعة الوطنية للتعليم بالحسيمة (0)
بركان.. تشييع شقيق الدولي المغربي حكيم زياش في أجواء مهيبة (0)
التجربة المغربية في مجال الإنصاف و المصالحة.. العدالة الانتقالية كمنهج سيادي (0)
إيقاف ثلاثة مشتبه فيهم بعد محاولتهم الفرار إلى المغرب عقب محاولة قتل في بلجيكا (0)
- تساقط كثيف للثلوج بمرتفعات إقليم الحسيمة
- تجديد هياكل الفرع المحلي للجامعة الوطنية للتعليم بالحسيمة
- بركان.. تشييع شقيق الدولي المغربي حكيم زياش في أجواء مهيبة
- التجربة المغربية في مجال الإنصاف و المصالحة.. العدالة الانتقالية كمنهج سيادي
- استنفار أمني بضواحي طنجة بعد العثور على جثة شخص مُتفحمة
- إيقاف ثلاثة مشتبه فيهم بعد محاولتهم الفرار إلى المغرب عقب محاولة قتل في بلجيكا
الريف .. وهاجس الردار
ما أجمل أن تعود إلى الريف بعد رحلة طويلة, وفي طريق عودتك تدفعك الفترة الزمنية، إلى تجاذب أطراف الحديث مع رفقاء الرحلة، ثم بعد ذلك تستسلم للنوم حتى يوقظك ذلك الهواء الصباحي المنعش فتجد نفسك على مشارف الريف, "فصباحك شوقٌ ياوطنا يسكننا ولا نسكنه", فتبدأ بالتأمل في عبقرية المكان التي تبوح بأسرار حضارة ضاربة في أعماق الماضي, فثمة جبال متناثرة تقف في خشوع وكأنها تعانق السماء, وكأنها تريد أن تذكًّرنا ببطولات أجدادنا الذين سقو تربتها بالدماء, وأينما تولي وجهك ثمة رائحة مميزة ترسلها الحقول الصامتة الممتدة من حولك, فتتراء لك من خلال تلك الحقول عشبة الكيف, ومن جانب آخر تطل عليك عشبة الخزامة, فترسل كل عشبة رائحتها فتتنافس كل منها للسيطرة في الهواء أكثر من الأخرى, وحتى إن طال الخلاف بينهما فإذ بهما تمتزجان في ودّ وتآخي وتعطيان نكهة لن تجد مثيلا لها في أي مكان في العالم الا في الريف, كأنها توحي لنا عبرها بأن مهما اختلفت توجهات وإيديولوجات أبناء الريف (إسلامي,علماني, اشتراكي....وحتى أمّي), هناك رابط عميق وغامض يجمعهم ويوحّدهم ويآخي بينهم خصوصا في أوقات الشدة أو في أيام الغربة, فلن تنتظر طويلا صحبة هذا التأمل الصوفي نحو الطبيعة, حتى يتعكر صفو مزاجك بما تجود به أحداث الطريق من مشاهد مريبة من صنع البشر, فربما اصطدمت عيناك بحادثٍ هنا أو هناك، وربما فوجئت بالسيارة تتلوى كالحية إما بسببب الطريق المنعرجة والملتوية أو كي تتفادى مطبًا اصطناعيًا عبقريًا، أو حواجز خرسانية أقامتها إحدى شركات الإصلاح دون إشارات تنبيهية واضحة، أو حفرة تُركت علامة على أن ثمة من كان يعمل في هذا المكان. وهنا أتذكر عادة صديقة فرنسية جاءت سائحة الى الريف، فعندما كنا في جولة عبر السيارة في بعض المناطق, فإذا بها تقول لي: أنتم أهل الريف سائقون ماهرون، فتعجبت من هذا الوصف وسألتها عن السبب، فأجابت: من يقود السيارة في مثل هذه الشوارع الرثة ومثل هذه الطرقات العجيبة لابد وأن يكون سائقًا ماهرًا.
على أن الشيء الأكثر جذبًا للانتباه عبر مراحل الطريق المختلفة هو تلك العبارة التي تزين بعض اللوحات الإرشادية على جانبي الطريق: إحذر ... السرعة مراقبة بالرادار، والهدف منها بالطبع هو تذكير السائق وإلزامه بألا يتجاوز السرعات المقررة، وإلا تعرض لعقوبة الغرامة المالية. لا شك أن الهدف نبيل، والأنبل منه أن يتسق الهدف مع مجموعة من الخدمات التي تتكفل بها الدولة لتأمين الطريق, كالرصف الجيد، ووضوح العلامات الإرشادية، وتخصيص حارات ملزمة للنقل الثقيل، وعدالة تطبيق القانون على الوزير قبل الغفير، واتخاذ الاحتياطات المناسبة في الشبورة الصباحية، وإنسانية التعامل من قبل رجال الشرطة، لاسيما الصغارمنهم الذين لم يتمرسوا بعد على الموازنة بين حقوق المواطنين وضرورة تطبيق القانون, وتلك الفكرة السائدة لديهم ولدى أي موظف من خارج منطقة الريف أن من يريد الاغتناء السريع فليبدأ وظيفته من الريف, فيأتي الموظف وخصوصا (رجال السلطة) على أتم استعداد لابتزاز البسطاء و السذج منّا واستلاب أموالهم, حقًّاً إن منطقة الريف تعيش مفارقة عجيبة طاردة لأهلها وفي نفس الوقت مستوردة لموظفيها.
لكن انتفاء وجود مثل هذه الخدمات السالفة الذكرفي منطقنا، وضعف أداء الدولة وفشله في تحقيق الحد الأدني من الطموحات المنوط به إنجازاها، وتعنتها وتفننها في تحصيل الغرامات وامتصاص دماء مواطنيها في شتى المجالات، كان من الطبيعي أن يُولد لدى السائقين ثقافة هي بلا شك جزء من ثقافة المواطن المغربي عمومًا والريفي خصوصا في حقبتنا الراهنة, فما أن يبدأ السائق رحلته حتى تجده حريصًا على معرفة مكان الرادار وتحديده بدقة، ومن ثم يستخدم هاتفه المحمول في تحذير زملائه من السائقين بأن ثمة رادارًا أو كمينًا مروريًا في منطقة ما. والأكثر من ذلك هو استخدام لغة الكشافات الضوئية (تقليب الأنوار) من قبل السيارات القادمة في الطريق العكسي لتحذير السائقين من اقتراب مكان الرادار أو الكمين المروري، وهي ظاهرة يشترك فيها كافة قائدي السيارات سواء أكانت أجرة أو خاصة أو نقلاً، بما في ذلك قائدي سيارات النقل العام الذين ينتمون وظائفيًا للإدارات الحكومية المختلفة، حتى لكأن أفراد الكمين المروري كتيبة عدائية تتربص بكل منتفع من الطريق، الأمر الذي يبدو وكأنه تنظيمًا جماعيًا وتمرّدًا لا شعوريًا ضد الدولة، أو إحساسًا بتردي الحالة الاقتصادية لجموع البائسين في ظل قوانين لا تستشعر تلك الحالة ولا تعرف عدالة التطبيق. لا أنكر أن من السائقين من يتجاوز السرعات المقررة فيُعرض حياته وحياة المواطنين للخطر، وهو مستحق بالطبع لعقوبة أقصى من مجرد الغرامة المالية، لكن ما تراه من تعسف لدى رجال الشرطة في أي كمين مروري، وتلهفهم على تحصيل الغرامات والرشاوي من السائقين بدرجات متفاوتة، يُفقد القانون جوهره ومغزاه، فيغدو الهدف من تشريعه مجرد استلاب أموال الناس وتسفيه أحلامهم في حياة أفضل طالما بشرتهم الحكومات المتعاقبة بقرب تحققها.
هذه الثقافة كما ذكرت هي جزء لا يتجزأ من ثقافة الريفيين عبر أكثر من ربع قرن، ابتداءا من أحداث 58-59 ما تلتها من أحداث 84 و 87 ثم الأحداث الاخيرة المستمدة من أحداث الربيع العربي, بحيث أصبح الهاجس الأمني لدى المخزن المغربي نحو منطقة الريف هو المحور الأول في برامجها, فراداراتها تنتشر في كل مكان، سواء أكانت أجهزة مراقبة فعلية تكشف أسرار الرعايا، أو كانت في صورة مدراء تمكَّن الفساد من عقولهم وممارساتهم فراحوا يراقبون مرؤوسيهم ويتلصصون عليهم خشية انفلاتهم من منظومة الفساد السائدة، أو كانت جهازًا رقابيًا بشريًا يتربص بأفكار وتوجهات كل من بقي لديه عقلٌ يعمل، ممسكًا بعصا العقاب لكل ذي ضمير حي، وجزرة الثواب لكل عقل أجهضه الفساد. ولعل أكثر مايحيز في نفوسناعندما يضم هذا الجهاز الراداري و الرقابي بعض من ضعاف النفوس من بني جلدتنا.
والغريب في الأمر ألا نجد نحن رادارًا يراقب الأداء الحكومي أو يرصد تجاوز الدولة للخطوط الحمراء المعبرة عن الحد الأدني من مصالح الشعب، ولا يجد قانونًا فعليًا يُعاقب المفسد والمخطئ عمدًا، أو يُقيل المفلس فكرًا. حقًا أن مجلس النواب هو الجهة المنوط بها مراقبة الحكومة ومحاسبتها، إلا أن المستقلين زيفًا، والحالمين بحصانةٍ تعلو بهم فوق القوانين، أولئك الذين حملهم إلى مقاعده نظام انتخابي أصابه الكساد الاستهلاكي والعوار التطبيقي، فضلاً عن غلبة المصالح الشخصية والأطماع المالية، وانتفاء ثقافة ومستلزمات التمثيل النيابي لدى الكثير من نواب الشعب الذين يخضعون وقت الترشح لاختبارات القراءة والكتابة، كل ذلك كان يُفقد مجلس النواب مصداقيته، ويجعله أداة طيعة في اليد الحديدية للحكومة، ومطية لتنفيذ مطامحها وتوجهاتها بغض النظر عن مدى ملاءمتها لطبيعة مشكلات الشعب المغربي بصفة عامة والمجتمع الريفي بصفة خاصة، أو استجابتها لطموحات العامة وتطلعاتهم, فالدولة بهذا المنطق كانت تُراقِب ولا تُراقَب، تأخذ ولا تعطي، تحكم ولا تُحاكم، تُنفذ ولا يُنفَذ عليها، تأمر ولا تُؤمر تعاقب ولا تُعاقب
أما على مستوى الحياة اليومية، فقد انعكست ثقافة الرادار على أفكار وسلوكيات الريفيين عمومًا، وشوهت بألوانها القاتمة كافة أوجه الحياة الريفية، لتفرز أسوأ سمات تعاملاتنا العامة والخاصة, فلا ثقة في العلاقات الأسرية المبنية على السلطة المطلقة لصلح بعض الأفراد والطاعة والخضوع للبعض المتبقي لا على التفاهم والاحترام بين أفراد العائلة, ولا ثقة في الموظف الذي اعتاد أن ينعم بدفء الرشوة، ولا ثقة في الطبيب حين يرقد المريض بين يديه مستسلمًا، ولا ثقة في القاضي حين يفصل بين الظالم والمظلوم، ولا ثقة في الشرطي المفتقر لمبادئ التعامل الأمني مع الرعية ... لا ثقة بين البائع والمشتري, بين المستخدم والأجير, بين الأستاذ والطالب, بين العالم والمتعلم, بين رجل الدين ومريدي الفتوى, بين الكاتب والقارئ. جميعنا نراقب بعضنا البعض، نتصيد الأخطاء لبعضنا البعض، علها تصلح مستقبلاً كورقة ضغط نساوم بها لحماية أنفسنا وتحقيق مآربنا الآثمة. وباختصار، أصبح المواطن الريفي في نظر أخيه متهمًا حتى تثبت براءته (إن ثبتت)، لا بريئًا حتى تثبت إدانته.
تلك هي ثقافة الرادار التي سيطرت علينا بفعل السياسات الممنهجة للدولة، أو بفعل فقدان إنسانيتنا وقيمنا حتى انقسم مجتمعنا إلى قسمين لا ثالث لهما: قسمٌ ضد الحكومة يراقب بعضه بعضًا، وهم الأغلبية المطحونة، وقسم ضدنا يراقب الجميع، وهم الأقلية المعروفة باسم الحكومة!.المشكلة أننا رغم معرفتنا بوجود هاته الردارات المسلطة نحونا وانكشاف كافة عوراتها، لكن ثقافتها لا زالت تعمل، وما زالت الرادارات القابعة بداخلنا تشوه هويتنا، وتحطم جسور الثقة في بنيتنا الحياتية المتصدعة ... ألم يأن لنا إذن أن نجمع أحجارها لنعيد بناء إنسانيتنا؟
بقلم : بشرى بلعلي
المرجو عدم تضمين تعليقاتكم بعبارات تسيء للأشخاص أو المقدسات أو مهاجمة الأديان و تحدف كل التعليقات التي تحتوي على عبارات أو شتائم مخلة بالأداب....


أضف تعليقك